مصر ـ الأزمة الحالية تقتضى إصلاحات جذرية
يجب وقف استخدام قوانين مبارك وإنهاء الإفلات من العقاب والمحاكمات غير العادلة
القاهرة : ـ قالت هيومن رايتس ووتش اليوم في التقرير العالمي 2013 إن الأزمة التي شهدتها مصر مؤخراً تؤكد على ضرورة أن تبدأ الحكومة في إصلاح قطاع الأمن وأن تكفل المحاسبة على انتهاكات الماضي. حصلت مصر على أول رئيس منتخب ديمقراطياً في عام 2012، إلا أنه وبشكل عام – حسبما قالت هيومن رايتس ووتش – شهدت سنة 2012 سلسلة من الفرص الضائعة لتعزيز حقوق الإنسان
اندلعت المصادمات في الأسبوع الماضي بين الشرطة والمتظاهرين في مدن بورسعيد والسويس والإسماعيلية والقاهرة مما أودى بحياة 52 شخصاً على الأقل، ودفع الرئيس إلى فرض حالة الطوارئ في كل من بورسعيد والسويس والإسماعيلية. قالت هيومن رايتس ووتش إن قانون الطوارئ الذي يعطي الشرطة سلطات موسعة في اعتقال الأفراد بحد أقصى 30 يوماً دون اتهامات، ثبت تاريخياً أنه يمثل مدخلاً لانتهاك الحقوق الأساسية للمصريين. يجب على الرئاسة أن ترجع عن حالة الطوارئ وأن تستخدم قانون العقوبات العادي في الملاحقات القضائية لحوادث العنف كلما اقتضت الأدلة ذلك.
قالت سارة ليا ويتسن، المديرة التنفيذية قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في هيومن رايتس ووتش: “انقلب التفاؤل الذي جلبته نهاية الحكم العسكري في 2012 إلى استياء، مع تحدي القيادات الجديدة لسيادة القانون، واستغلالها لقوانين عهد مبارك في الحد من الهامش المتاح للانتقاد. الانتخابات وحدها ليس كافية لضمان التحول الناجح إلى الديمقراطية لأن جوهر الديمقراطية حماية الحقوق الأساسية مثل الحق في حرية التعبير والتجمع وتكوين الجمعيات، وضمانالمحاسبة لعنف الشرطة”.
قامت هيومن رايتس ووتش في تقريرها المكون من 665 صفحة، بتقييم التقدم في مجال حقوق الإنسان خلال العام الماضي في أكثر من 90 بلداً، ويشمل هذا تحليلاً لتداعيات الانتفاضات العربية. قالت هيومن رايتس ووتش إن استعداد الحكومات الجديدة لاحترام حقوق الإنسان من شأنه أن يحدد ما إذا كانت الانتفاضات العربية ستتمخض عن ديمقراطية حقيقية أم أنها تعيد ببساطة إفراز السلطوية في ثياب جديدة.
لم تتم أية إصلاحات هيكلية أو تشريعية مؤثرة فى 2012. كما أن الدستور الجديد لا يحمى حرية التعبير والعقيدة ويسمح بالاعتماد على نصوص فضفاضة غامضة الصياغة للحد من حقوق مثل حقوق المرأة وممارسة الحريات العامة التي يكفلها القانون الدولي.
دعت هيومن رايتس ووتش الرئيس مرسي لاتخاذ خطوات فورية لتجميد تطبيق القوانين القمعية الموروثة من عهد مبارك، وبوجه خاص تلك المواد بقانون العقوبات التي تجرّم حرية التعبير، بالإضافة إلى القوانين العتيقة المتعلقة بحرية التجمع، ومواد القانون التي تقيد بشدة أنشطة منظمات المجتمع المدني المستقلة والنقابات المهنية وتضعها تحت طائلة القانون.
في خلال شهور الرئيس مرسي الستة في السلطة زادت كثيراً الملاحقات الجنائية للصحفيين والمدونين وغيرهم بتهم “إهانة” المسؤولين أو المؤسسات، و”نشر معلومات كاذبة”، باستخدام أحكام قانون العقوبات الموروثة من عهد مبارك، التي تعاقب التشهير بالسجن فى انتهاك للمعايير الدولية.
عدّل الرئيس قانون الصحافة في أغسطس/آب لإلغاء الحبس الاحتياطي للصحفيين؛ مما يدل على وعيه بأن الحبس مشكلة. إلا أن الرئاسة رفعت قضايا تشهير جنائية على 3 صحفيين على الأقل بتهمة “إهانة الرئيس”. وقام قاضي تحقيقات عينه وزير العدل باستجواب 18 صحفياً آخرين وعلى الأقل ثلاثة نشطاء سياسيون حتى الآن بتهمة “إهانة القضاء” لانتقاده العلني للقضاء على عدم استقلاله.
وقالت سارة ليا ويتسن: “على وكلاء النيابة أن يحققوا في شكاوى تعذيب المحتجزين على يد الشرطة وأن يلاحقوا ممارسي التعذيب بدلاً من محاولة تجريم التعبير عن آراء انتقادية وحبس الصحفيين”.
في تحرك إيجابي، كان ضمن أول إجراءات الرئيس مرسي بعد تولي المنصب تعيينه لجنة تقصي حقائق للتحقيق في كافة حوادث العنف ضد المتظاهرين منذ بدء الثورة المصرية في مطلع 2011. قدمت اللجنة تقريرها في نهاية ديسمبر/كانون الأول، لكن الرئيس لم ينشر التقرير، فأثار المخاوف من عودة التنازلات السياسية على حساب المحاسبة. في هذه الأثناء لم تتخذ حكومته أية خطوة لإصلاح القطاع الأمني، وهو مصدر الانتهاكات واسعة النطاق في عهد حسني مبارك، أو معالجة العنف المتوطن والمتواصل الذي تمارسه الشرطة بحق المحتجزين.
قالت هيومن رايتس ووتش إنه يبدو أن الشرطة استخدمت هذا الأسبوع القوة المفرطة رداً على مظاهرات وأعمال شغب في بورسعيد، وهذا بعد أن قابل باحثو هيومن رايتس ووتش شهود عيان ومشاركين في هذه الأحداث. مات 37 متظاهراً واثنين من رجال الشرطة في هذه المصادمات. لجأت الشرطة إلى استخدام القوة المميتة أثناء ردها على اعتداء مسلح على أحد السجون أثناء المظاهرات، مما أدى لإطلاق النار على عدد من المارة العُزل فسقطوا قتلى. بموجب المعايير الدولية لا يحق لمسؤولي إنفاذ القانون استخدام القوة المميتة إلا عندما لا يكون لها أي بديل لحماية الأرواح.
كان رد الرئيس مرسي على الاشتباكات العنيفة بين منتقدين من المعارضة وبين مؤيديه وبعض أفراد الإخوان المسلمين، أمام القصر الرئاسي في ديسمبر/كانون الأول 2012، كان بدوره منحازاً بشكل يثير القلق، بحسب هيومن رايتس ووتش، فقد أخفق في الاعتراف بالأدلة القاطعة التي توحي بالمشاركة النشطة لحلفائه السياسيين ومؤيديه في العنف، ووجه اللوم إلى المعارضة وحدها. كما أنه أظهر استهانة كبيرة بمبدأ افتراض براءة المتهم حتى تثبت إدانته، زاعماً أن المحتجزين على ذمة الواقعة قد اعترفوا بذنبهم، رغم أن النيابة كانت ما زالت في طور التحقيق معهم، وأفرجت عنهم بعد الواقعة بفترة قصيرة؛ لعدم كفاية الأدلة.
في غضون أسابيع من اعتلاء سدة الرئاسة، أمر مرسي بمراجعة قضايا المدنيين المحكوم عليهم في محاكمات عسكرية منذ بدء الانتفاضة، وأصدر بعد ذلك عفواً رئاسياً بالإفراج عن 700 منهم. لكنه رفض الأمر بإعادة محاكمة 1100 آخرين، متعللاً بأسباب “أمنية”.
لكن هناك 32 مدنياً على الأقل ما زالوا يحاكمون أمام المحاكم العسكرية غير العادلة، وتضم صفوفهم 25 شخصاً اعتقلوا في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، حين حاولت الشرطة العسكرية إجلاءهم عن جزيرة القرصاية في القاهرة، والصحفي محمد صبري الذي اعتقل وهو يجري تحقيقاً صحفياً عن قانون الملكية الجديد بمناطق سيناء الحدودية.
قبل تولي مرسي للمنصب، أخفق مجلس الشعب في الحد من قدرة العسكريين على محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، وتخلت بعد ذلك الجمعية التأسيسة عن الصياغة الواردة في مسودات سابقة للدستور كانت تحظر محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية. والآن، تسمح المادة 198 من الدستور بمحاكمة المدنيين عسكرياً في الجرائم التى تضر الجيش، فيما يحظر القانون الدولي محاكمة المدنيين عسكرياً تحت أى ظروف منعا تاما.
وقالت سارة ليا ويتسن: “يجب على الرئيس مرسي أن يوقف كافة المحاكمات العسكرية للمدنيين عن طريق إصدار تعليماته لوزير الدفاع بإحالة المحاكمات الجارية إلى القضاء المدني. وعليه أيضاً إنهاء المحاكمات أمام محاكم أمن الدولة طوارئ، التي تعد من أسوأ بقايا عهد مبارك، وإحالة قضاياها العالقة إلى المحاكم الجنائية الطبيعية”.
رغم انتهاء حالة الطوارئ في مايو/أيار بعد أكثر من 30 عاماً ، فإن محاكم أمن الدولة طوارئ تواصل العمل بموجب المادة 19 من قانون الطوارئ، التي يطعن بعض المحامين على دستوريتها أمام المحكمة الدستورية العليا. أو لم يقم الرئيس مرسي بإحالة المحاكمات المتبقية التي تنظرها محاكم أمن الدولة طوارئ إلى المحاكم المدنية، وقام في سبتمبر/أيلول بتعيين 3649 قاضياً في تلك المحاكم.
في 20 يناير/كانون الثاني 2013، بدأت إحدى هذه المحاكم في محاكمة 12 مسيحياً و8 مسلمين متهمين بالمشاركة في أحداث عنف طائفي في أبو قرقاص في أبريل/نيسان، مات فيها اثنان من المسلمين، وجرح أشخاص من الجانبين وأحرقت عشرات المتاجر والمنازل المملوكة لمسيحيين. كانت محاكمة أولى لهذه القضية أمام إحدى محاكم أمن الدولة طوارئ في المنيا قد أدت إلى أحكام بالسجن المؤبد على 12 مسيحياً وتبرئة المتهمين المسلمين، لكن تم إبطال هذا الحُكم بعد ذلك.
يكفل دستور مصر الجديد إقامة دور العبادة للمسلمين والمسيحيين واليهود وليس لأتباع أية ديانة أخرى، مثل البهائيين الذين لا توجد حماية لحقهم في ممارسة شعائرهم الدينية. استمر العنف الطائفي على خلفية ميراث الإفلات من العقاب. أمر الرئيس بفتح تحقيق جنائي في أحداث عنف طائفي وقعت في دهشور في أغسطس/آب، ولكن لم يتم التحقيق في أحداث عنف طائفي عديدة أخرى وقعت منذ 25 يناير/كانون الثاني. ولم تتخذ الحكومة أية خطوات لتعديل القوانين العتيقة التي تميز ضد المسيحيين الراغبين في بناء أو تجديد الكنائس.
أما حرية تكوين الجمعيات فما زالت مقيدة بفعل قانون الجمعيات سيئ السمعة لسنة 2002، الذي تجري بموجبه حالياً محاكمة موظفين عاملين في منظمات غير حكومية مصرية ودولية. ومع بقاء قانون النقابات الخاص بعهد مبارك سارياً فإن مئات النقابات المستقلة المشكلة حديثاً تضطر للعمل في ظروف هشة، ويتعرض أعضاؤها للملاحقة الجنائية بتهمة المشاركة في أنشطة نقابية.
انعقد أول برلمان مصري في حقبة ما بعد مبارك من يناير/كانون الثاني وحتى أمرت المحكمة الدستورية العليا بحله في يونيو/حزيران، فناقش مشروعات قوانين كان من شأنها تعزيز حرية تكوين الجمعيات وتداول المعلومات، وتسهيل الملاحقة الجنائية للتعذيب، لكنه لم يستكملها أو يمررها. في مايو/أيار أخفق البرلمان في تعديل قانون القضاء العسكري للحد من المحاكمات العسكرية للمدنيين.
في الشهور التالية وقعت اعتداءات جديدة على سيادة القانون واستقلال القضاء، بدأها المجلس العسكري السابق في يونيو/حزيران وتلاه الرئيس مرسي في نوفمبر/تشرين الثاني، حين أصدر كلاهما إعلانات دستورية يستأثر فيها لنفسه بميزات استثنائية وسلطات تشريعية. بعد شهرين من انتخاب الرئيس، قام الأخير بإلغاء الإعلان الدستوري العسكري.
إلا أن إعلانه الدستوري بتاريخ 21 نوفمبر/تشرين الثاني أثار السخط وأتاح للجمعية التأسيسية التصويت على مسودة الدستور في جلسة امتدت طوال الليل وفي غياب أعضاء الأحزاب الليبرالية وممثلي الكنيسة. ثم أعلن الرئيس مرسي في 15 ديسمبر/كانون الأول عن إحالة الدستور للاستفتاء الشعبي، رغم نداءات بتأجيل التصويت والتفاوض على بعض المواد الأكثر إثارة للخلاف. لقد صُمم الدستور كي يسمح لبعض المواد غامضة الصياغة بشأن الآداب العامة و”الطبيعة الأصيلة للأسرة المصرية” بالتحكم في الحقوق التي يكفلها. كما أنه يخفق في ضمان الحقوق الأساسية في حرية التعبير والاعتقاد الديني ومساواة المرأة بالرجل وحماية المدنيين من المحاكمة أمام محاكم عسكرية.
في مطلع 2014 سيتعرض سجل حقوق الإنسان المصري لفحص دقيق من مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان لأول مرة منذ انتفاضة 25 يناير/كانون، بموجب آلية المراجعة الدورية الشاملة. وقالت هيومن رايتس ووتش إن تلك ستكون لحظة محورية لتقييم التقدم الذي حققته حكومة الرئيس مرسي، في تنفيذ إصلاحات حقوق الإنسان المستحقة منذ وقت طويل، والقطيعة مع ميراث سنوات مبارك.
وقالت سارة ليا ويتسن: “كانت عملية وضع الدستور، في أفضل أحوالها، فرصة ضائعة، حيث أنها أخفقت في تحقيق مراعاة كافية لالتزامات مصر الدولية فيما يتعلق بحقوق الإنسان، وتبنت صياغة تمثل تقويضاً مباشراً للحقوق الأساسية التي كانت انتفاضة 2011 تقصد تأمينها. إن طريقة التصرف بشأن الدستور ترقى إلى مصاف الخيانة، وقد سنّت سابقة مشؤومة، يتعين على الرئيس مرسي التغلب عليها بإجراء إصلاحات حقيقية”.