قبل عامين من اليوم، في 14 فبراير 2011، كان النصب الضخم لا يزال يرتفع نحو السماء؛ ستة أذرع قوية تلتقي عند القمة لتتوحد في حمل اللؤلؤة التي أعطت الميدان اسمه، وربما رمزيته التي اجتذبت في هذا اليوم آلافا من البحرينيين، اختاروا اللؤلؤة وميدانها شاهدين على يوم غضبهم، في الذكرى العاشرة لإطلاق الميثاق الوطني للبحرين ودستورها، وفي ظلال النصب أقام المتظاهرون خيام اعتصامهم، مستلهمين اعتصام ميدان التحرير، رمز ثورة الخامس والعشرين من يناير المصرية، التي حققت قبل أيام فقط نصرها الأول فأطاحت بالديكتاتور الذي قبع عقودا ثلاثة على صدر مصر.
كانت هذه هي بداية الثورة البحرينية وواحدة من لحظاتها الدرامية الهامة، كان النصب في قلب الميدان الذي أريد له أن يرمز إلى الأمل في الوحدة بين دول مجلس التعاون الخليجي، سعيا إلى مستقبل مشرق لشعوبها، يتخذ مع استمرار الاعتصام في ظلاله رمزية جديدة؛ أصبحت اللؤلؤة وميدانها رمزا لسعي الشعب البحريني إلى وحدة وطنية قائمة على المساواة والعدل وصيانة الحقوق والحريات دون تفرقة طائفية، ولكن نظام العاهل البحريني “حمد بن عيسى آل خليفة” وشركاؤه من حكام مجلس التعاون كانت لهم رؤية مختلفة تمت ترجمتها في لحظة درامية أخرى من لحظات الثورة البحرينية، صباح الجمعة 18 مارس 2011، عندما هاجمت جرافات النظام النصب لتهدمه في حماية قوات درع الجزيرة، التي شارك فيها جنود من السعودية والامارات ، أوفدتهم دولتاهما ليس لمساعدة الشعب البحريني في مواجهة عدوان خارجي، وإنما لمد يد العون لحاكم البحرين في عدوانه علي شعبه وتطلعاته للديموقراطية والحرية. لم يعد نصب الوحدة والتعاون يمثل ما أراده حكام مجلس التعاون له، ولم يكن ثم بديل عن هدمه، في رسالة واضحة، “وحدة في الاستبداد، وتعاون في القمع”.
لم يرد من هدم النصب أن يضع نهاية لثورة البحرين فحسب وإنما أراد أن يوهم العالم أن الثورة لم تكن في الأساس، ولكن الشعب البحريني أبى إلا أن تستمر ثورته، ولا أدل على استمرارها من استمرار القمع وتصاعد وتيرته طوال عامين.
قبل أيام أعلن العاهل البحريني عن بدء حوار وطني جديد. حلقة جديدة في سلسلة مبادرات صورية لم يسفر أي منها عن نتائج حقيقية. كان أحد أهم هذه المبادرات تشكيل لجنة مستقلة للتحقيق فيما شهدته البحرين من أحداث بدأت مع بدء انتفاضتها في مثل هذا اليوم منذ عامين. أصدرت هذه اللجنة في 23 نوفمبر 2011 تقريرا في 500 صفحة وثقت فيه: الاستخدام المفرط للقوة من قبل قوات الأمن، الذي أسفر عن مقتل 30 شهيدا، ومئات المصابين والمعتقلين، كما وثقت التعذيب وإساءة المعاملة المنهجيين للسجناء والمحتجزين، و التمييز الطائفي المتمثل في الفصل الجماعي والتعسفي للعمال والموظفين والطلبة، وانتهاك حياد طواقم الإسعاف والمساعدة الطبية، وكذلك وثقت اللجنة إفلات الجناة من العقاب على جرائمهم بعلم ودعم من السلطات حتى أعلى مستوياتها.
بعد عامين مازال ما وثقته اللجنة المستقلة من انتهاكات مستمرا، وفيما يخص توصياتها الست وعشرين، فإن تقريرا صدر في نوفمبر من العام الماضي بعد عام من صدور تقرير اللجنة المستقلة، رصد أن ثلاثا فقط من هذه التوصيات قد تم تنفيذه بشكل كامل، في حين نفذ 15 توصية بشكل جزئي، ولم يتم التقدم مطلقا في تنفيذ ست توصيات هي في الواقع الأكثر أهمية، وتضم: محاسبة المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات المرتكبة في حق الشعب البحريني، واطلاق سراح السجناء السياسيين، ومنع التحريض الطائفي، وتخفيف القيود المفروضة على حرية التعبير.
في ذكرى اندلاع ثورة البحرين، أضاف النظام البحريني إلى قائمة شهدائها شهيدا جديدا، شاب في سني مراهقته لم يزل، ينضم اليوم إلى 87 شهيدا هو عدد شهداء الثورة كما أحصاهم تقرير لمركز البحرين لحقوق الإنسان، صدر عشية الرابع عشر من فبراير، فيما يجتمع مؤسسا هذه المنظمة البارزة، عبد الهادي الخواجة ونبيل رجب، لأول مرة منذ شهور خلف أسوار سجون السلطة، حيث يمضي كل منهما مدة عقوبة أصدر أحكامه بها قضاء هو أداة في أيدي سلطة لا تتوانى عن سحق معارضيها بكل سبيل متاح.
عبد الهادي الخواجة، الذي بدأ منذ أيام إضرابا عن الطعام مع عدد من رفاق سجنه من رموز المعارضة والمدافعين عن حقوق الإنسان، اعتراضا على الأحوال غير الإنسانية للسجن، أكد من داخل محبسه أن حقوق الإنسان لا ينبغي أن تكون موضع تفاوض، موجها صفعة مستحقة إلى الحوار الوطني المزعوم وإلى من أبدوا تفاؤلهم به وعلى رأسهم إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، التي لا تزال تغض البصر عن ممارسات النظام البحريني القمعية، فيما تكتفي بالتهليل لبوادر الحوار السياسي الصورية.
عامان من القمع، لم يكونا كافيين لتحقيق ما يسعي إليه النظام البحريني من إجهاض ثورة شعبه، الذي لا يزال يسطر باسمه سطورا من النضال السلمي سيحفظها له التاريخ في مكان مميز بين ثورات شعوب العالم الساعية للعدل والحرية، ولكن التاريخ ذاته لن يغفل ما سطرته أيدي المتعاونين مع النظام في قمعه، أو المتواطئين بالصمت على جرائمه.
وسيحتفظ التاريخ بمكان خاص في قعر مزبلته لمن كانت الأحقاد الطائفية الكريهة هي دافعه لتجاهل واحدة من أهم ثورات الربيع العربي، خرجت كلؤلؤة من بين أمواج الخليج العربي تتألق في خاصرة ما قد بدا لزمن أكثر أنحاء المنطقة العربية استكانة تحت وطأة القهر، فتذكرنا بان الشعوب دائما قادرة على إدهاشنا بإصرارها ومقاومتها وتطلعها إلي الحرية